كتاب المواضيع الاجتماعية

للكاتب عبد الله خمّار

 

تمهيد

المواضيع زبدة الرواية

 

        يعتبر معظم الأدباء الرواية كائنا حيا مكونا من جسم وروح، فجسمها هو هيكل القصة وحبكتها وأحداثها، أما روحها فهي ما تحمله من قيم إنسانية، وما يتصف به أبطالها من مبادئ ومثل، يدافعون عنها ويصارعون القوى الخارجية كما يقاومون هوى النفس ونزعاتها الأنانية من أجل إعلائها ونصرتها، وبصورة أدق روح الرواية هي مواضيعها التي هي الدافع والغاية الأساسيان للكاتب من روايته، ومهما بلغ الجسد من تناسق وروعة وإتقان يبقى جماله باردا ما لم تدفئه الروح بحرارتها.

الحياة تقاس بالعمل لا بالزمن :

        وحياتنا العادية لا تقاس بالزمن بل بما أنجزناه فيها من أعمال تنسجم مع قيمنا ومبادئنا، فليس عمر الإنسان الحقيقي إلا ما استطاع فيه أن يسمو على ذاته، وأن يقول كلمته ويؤدي رسالته، فإن فعل ذلك فقد أصبح خالدا ولو مات في العشرين، وإن عاش كالحيوان لا يهتم إلا بلذاته الجسدية فكأنه لم يولد ولم يكن ولو عاش قرنا كاملا، لأنه لم يترك أثرا ولأن حياته كانت مسطحة تفتقر إلى العمق والكثافة. وكذلك الحياة في الرواية، فإن كانت أحداثها تافهة وخالية من القيم الإنسانية فلا قيمة لها، يتسلى بها الناس أياما ثم يطويها النسيان، وإنما يخلد الناس الأعمال العظيمة التي تساهم في ترقية الإنسان وتمجيد مثله العليا في الحق والخير والجمال، ونشر التفاهم والتسامح بين أبناء البشر، والدعوة إلى السلم ونبذ الحروب ومحاربة الجهل وتشجيع العلم، ونبذ أنواع التعصب كلها: الجنسي والعرقي والديني والحزبي. وترصد الجوائز الأدبية الوطنية لها، فلا تعطى الجائزة لأديب على خلاعته أو استهتاره بالقيم، ولا على تعصبه وتحيزه لطائفته أو عرقه أو دينه أو حزبه شريطة أن تكون هذه الأعمال في مستوى فني راق يؤهلها لحصد هذه الجوائز كأعمال الكاتب العربي المصري الكبير نجيب محفوظ، والكاتب الجزائري المبدع محمد ديب .

إحترام الآخرين يبدأ من احترام الذات :

        ولا تعني الدعوة إلى السلم ونبذ الحروب، التخلي عن نصرة القضايا العادلة، أو أن يتنازل الكاتب عن حق شعبه المغتصب بحجة الدعوة إلى السلم، كما لا يعني نبذ التعصب أن يبادر الكاتب إلى الهجوم على طائفته أو الانتقاص من دينه أو تسفيه قومه، كما يفعل بعضهم على طريقة: "خالف تعرف" ليقال إنهم أحرار، فأولى الناس بحب الإنسان هو أهله وقومه وأبناء جلدته. ومن لا يحب أهله وقومه لا يمكن أن يحب الناس جميعا. ومن لا يحترم دينه لا يمكن أن يحترم أديان الناس جميعا. ولكن النزاهة تقتضيه أن يشير إلى الظالم وإن كان من أهله، وأن ينصر المظلوم وإن لم يكن من ملّـته.

        ولا بدّ أن يتحلّى الكاتب إذن بالشجاعة العقليّة التي تمكنه من قول ما يعتقد أنه الحق وتجعله يواجه من يعارضون آراءه ويحاولون إرهابه بكل الوسائل. ورحم الله شوقي إذ يقول:

إنّ الشجاعة في القلوب كثيرة      ووجدْتُ شجعانَ العقولِ قليلا

                                    81 الشّوقيّات(1) ص1

        فالمواضيع التي يعالجها الكاتب في الرواية إذن، والمغزى الذي يستخلصه القارئ منها، هي بيت القصيد، وهي الخلاصة والزبدة وهي أهم ما تحمله الرواية من كنوز. إنّ خلق الشخصيات بما تحمله من سمات جسمية ونفسية واجتماعية، ووصف الأماكن باتساعها وضيقها وعظمتها وحقارتها، وهندستها الرائعة أو بساطتها، وتصوير الثياب بجدتها وقدمها وألوانها الزاهية والبهية وأساليب تفصيلها، والمناسبات التي ترمز إليها، ووصف الأزمنة المتعاقبة في الفصول، وما تكتسيه الطبيعة من أردية متنوعة وألوان خلابة حسب المناطق في الجبال والوديان والسهول والشواطئ والصحاري، ودراسة العلاقات الإنسانية، وما فيها من تواد وتنافر وتحاب وكره وتعاون وتناحر، تخدم كلها غرضا واحدا هو رؤية الكاتب للكون كما هو، وكما يريد أن يكون وإرادته في أن يتغير الإنسان نحو الأحسن. فهو في كل صفحة بل في كل سطر يعيد بناء الكون، ويعلن عن رأيه من خلال حوار أشخاصه، ومن خلال كفاحهم وانتصاراتهم وهزائمهم وابتساماتهم ودموعهم ومن خلال تعاطفه مع الطيبين ودفعنا إلى التعاطف معهم، وتأففه من الشريرين بل احتقاره لهم ودفعنا إلى ذلك. ومن خلال كشفه لدوافع الإنسان وظروفه وتفهمه للضعف الإنساني ودفعنا للتفهم والتسامح والعطف والعفو.

        والكاتب الذي لا يفعل ذلك لا يقول شيئا ولو كتب المجلدات ولا يؤثر فيما حوله إلا تأثيرا سلبيا وقتيا. وتظل رواياته كفقاقيع الصابون الملونة، يعجب بمنظرها الناس مؤقتا ولكنها لا تلبث أن تختفي وتزول. وقد تختلف رؤية الكتّاب إلى المجتمعات والناس باختلاف عقائدهم ومذاهبهم السياسية وإيديولوجياتهم، ولكن الخلود لا يكتب إلا للأعمال التي تسعى إلى بناء المجتمع الإنساني لا إلى هدمه.

مواضيع الرواية :

        ولكن، ما المواضيع التي تطرحها الرواية؟

        الأفضل أن يطرح السؤال بصورة معكوسة: ما المواضيع التي لا تطرحها الرواية؟ فالرواية تطرح كل المواضيع، لأنها تطرح مشاكل الإنسان الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتربوية والدينية والنفسية والفلسفية، وبإيجاز مشاكل الإنسان كلها. والرواية الجيدة هي التي لم تكتب فيها أي كلمة عبثا، يستخدم فيها الكاتب طرقا كثيرة لعرض مواضيعه بما في ذلك الوصف والعلاقات الإنسانية .

        ومعظم الروايات تعالج موضوعا رئيسيا هاما، وتعالج إلى جانبه مواضيع متعددة أخرى اجتماعية وسياسية وتربوية يجيب الروائي عن بعضها من خلال حوار أبطاله ومواقفهم ويترك بعضها للقارئ ليفكر. وأهمية الرواية لا تعد بكم المواضيع التي عالجتها، بل بكيفية معالجتها ومناقشتها، وبمساهمة الكاتب في إلقاء الضوء على مشاكل مجتمعه، وإبداء الحلول اللازمة أحيانا بصورة غير مباشرة، ودون وعظ أو خطب، وفي غفلة من القارئ الذي يشعر فجأة أنه شارك في هذه القضية ومعني بها ومسؤول عنها.

        والموضوع الرئيسي المطروح في ثلاثية محمد ديب مثلا هو الاستعمار ونتائجه الوخيمة على الشعب الجزائري، وتتفرع منه مواضيع كثيرة، ففي الدار الكبيرة نرى مشاكل الأسرة الجزائرية وما تعانيه من بؤس. ويتفرع منها: موضوع المرأة الجزائرية وما تعانيه من فقر وجهل وكفاحها من أجل الحياة من خلال "عيني" ونساء دار سبيطار. الطفولة البائسة من خلال عمر وأقرانه. القمع البوليسي من خلال ملاحقة المناضلين الأحرار مثل حميد سراج. الآفات الاجتماعية من بطالة وتسول وسكر من خلال بعض النماذج التي يصورها الكاتب. زيف التعليم ( حيث يتعلم التلميذ الجزائري أن أمه فرنسا  ووطنه فرنسا) ويعلمهم الأستاذ وهو منهم بلغة غير لغتهم) والعادات والتقاليد وغيرها من المواضيع .

        أما في " الحريق" فنرى مشاكل الريف برمتها بما في ذلك العلاقة بين المعمرين والفلاحين، واغتصاب أراضيهم، وفي الجزء الثالث وهو " النول" يبسط الكاتب مشاكل المدينة الاجتماعيّة وحال العمال الحرفيين فيها.

            وسنستعرض في هذه السلسلة بعض المواضيع الاجتماعية والسياسية والثقافية. أمّا المواضيع الوصفية فهي ليست مواضيع قائمة بذاتها، بل مكملة لمواضيع الرواية، يستخدمها الكاتب لإلقاء الضّوء على ملامح الشخصيات أو كإطار للأحداث، كوصف الأمكنة والمشاهد الطبيعيّة. وقد تحدثنا عنها بالتفصيل في كتاب:"فن الكتابة: تقنيات الوصف". ولا ضرورة لدراستها في هذا الكتاب تجنّباً للتكرار.

  لقراءة الفصل التالي انقر هنا: الفصل الأول: المواضيع الاجتماعية(تعريفها وبناؤها)

للاطلاع على فصول الكتاب، انقر هنا: المواضيع الاجتماعيّة

للاطلاع على الكتب التعليمية الأخرى للكاتب انقر هنا: كتب أدبية وتربوية